كان لحوار قديم مع صديق راحل أثرًا كبيرًا في تشكل فكرة رواية “ابنة ليليت”، ولم يجول في خاطري أن حوارًا مضى عليه أكثر من 12 سنة، أن يتحول إلى عملاً أدبيًا يُسلط الضوء على قضايا اجتماعية وثقافية متعددة في المجتمع السعودي والمجتمعات العربية بوجه عام.
تحدثت وقتئذ مع صديقي الرحل عبداللطيف العجاجي (رحمه الله) عن الهجرة الاختيارية وعن التحديات التي تواجه الأفراد، خاصة النساء، في الطبقات الاجتماعية الغنية ماديًا والمحدودة اجتماعيًا، وكيف يستخدم بعض الأفراد قوتهم ونفوذهم لظلم الأقارب وسلب حقوقهم، وكيفية تحول الثراء إلى نقمة.
فترسبت تلك الأفكار في العقل الباطن حتى تحولت إلى رؤية تصور بواقعية تلك التحديات الاجتماعية والثقافية في المجتمع، مع تسلِّطً الضوء على قضايا الهوية والعدالة، ومقاومة الظلم الاجتماعي، والسعي نحو تحقيق الذات.
الظلم ثقب أسود عميق يحاول أن يجذب الجميع، منهم من يقاوم هذا الفخ، وبعضهم ضعيف أمام هذه الشبح الطاغي، بسلب المال، بالبغي على حقوق الآخرين، على الفئة المستضعفة من الأهل وتحديدًا جنس الإناث.
تختار د.جواهر الهجرة بحثًا عن أثبات الذات، وتحقيق الحلم الأمريكي، وكسب المجد، لكنها هجرة الأقوياء “الهجرة ليست اختيار الجميع.. الهجرة فقط للأقوياء” (كما قال صديقي الراحل) بكل تحدياتها وتكاليفها وانكساراتها، لتُظهر معدن الإنسان الصلب العنيد، لتتحول جواهر إلى جورجيت وتخلق منها “ابنة ليليت”.
أنها صراع الحضارات والثقافات والبحث عن السعادة التائهة التي يُحسد الفقراء عليها، ويهرب الناس منها بحثًا جودة الحياة.
عدت إلى غرفتي في الفندق، تنتابني عاصفة من المشاعر وبعض الخيبة، أتساءل، هل فرحت بهذا اللقاء مع أهلي؟ هل هم فرحوا بعودتي؟ لا أنكر أن هناك نظرات الإعجاب من فئة الشباب والشابات، أما الكبار فغلب عليهم الحضور الباهت، ونظرات التوجس والارتياب.
الأكيد أن ذلك لا يكفي لإقناعي بالعودة إلى العائلة، ما ضرهم لو فعلوا كما فعلت عائلة أم مبارك في الاستراحة، وعبروا عمّا بدواخلهم بطريقة تلقائية ومفرحة، ربما هذا حظ من يملك المال الوفير من التعاسة، أن يكونوا بخلاء في إظهار مشاعرهم.
أم يا تُرى هي روحي المتعبة من الغياب تبحث عن رشفات مسرة، مذابة، أغذي بها وجداني المرهقة؟ هل وقعت في التناقض من دون أن أدري؟ نحب حياة البسطاء حين نشعر بالتعاسة، ولكننا حين نعيش نطمح لمستوى الأغنياء، لقد أصبحت علاقتي مع عائلتي مثل إطارات مركبة تركت في مرآب سنوات طويلة؛ فتحولت مع مرور الزمن إلى جافة وهشة، تتشقق أجزائها مع أول حركة، ولا يمكن أن تعود إلى طبيعتها أبداً”.
أحسب أن الرواية هي مغامرة أدبية وإنسانية رفيعة يصعبُ نسيانها.
أولت كتابتها بصوت حالم وشاعريّ مترع بالعاطفة ولكن أيضًا بصوت متفجع ورثائيّ يدمج المرارة في بوتقة من التخييل الواقعي.
فوجدت أن عنوان الرواية يقوم بتحوير الشخصية الرئيسة من دكتورة بثلاثة أسماء إلى أسطورة “ليليت” القديمة، التي ترمز إلى التمرد والندية، لتُعبِّر عن شخصية “جواهر” التي ترفض الخضوع للظلم والاستغلال، كان لابد من اظهار التمرد على الظلم وأن تُجسِّد “جواهر” تلك الروح المتمردة على الظلم الاجتماعي والعائلي، حيث تقرر مواجهة الواقع بشجاعة واستخراج القوة الأنثوية الكامنة، لتحقيق ذاتها والبحث عن مستقبل أفضل.
سيلحق بها ذلك تحديات جديدة وأهمها البحث عن هوية جديدة، لكن ستكون هوية متشظية بين الحضارات المتصارعة، حيث تعيش “جواهر” صراع مع التأقلم مع الثقافات المختلفة، وصراع مع الوجود والانتماء، بين شرقاُ ظلمها وغرباً لن يرحمها.